فصل: السنة الرابعة من ولاية عبيد الله بن السري على مصر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **


 السنة الرابعة من ولاية عبيد الله بن السري على مصر

وهي سنة عشر ومائتين‏.‏

فيها ظفر المأمون بعمه إبراهيم بن المهدي المعروف ببن شكلة ‏"‏ أمه ‏"‏ الذي كان بويع بالخلافة وتلقب بالمبارك ظفر به وهو بزي النساء فعاتبه عتابًا هينًا ثم عفا عنه‏.‏

وفي اختفاء إبراهيم هذا حكايات كثيرة‏.‏

وفيها امتنع أهل قم فوجه إليهم المأمون علي بن هشام فحاربهم حتى هزمهم ودخل البلد وهدم سورها وأستخرج منها سبعة آلاف ألف درهم‏.‏

وفيها في شهر رمضان توجه المأمون إلى فم الصلح وبنى ببوران بنت الحسن بن سهل وكائنة المأمون مع بوران المذكورة وتزويجه بها مشهور‏.‏

وفيها توفي حميد الطوسي‏.‏

كان من كبار قواد المأمون وكان جبارًا وفيه قوة وبطش وإقدام وكان يندبه المأمون للمهمات‏.‏

وفيها توفي شهريار بن شروين صاحب الديلم وملك بعده ابنه سابور فنازعه على الملك مازيار بن قارن وقهره وأسره وقتله واستولى المذكور على الجبال والديلم‏.‏

وفيها توفي الأصمعي واسمه عبد الملك بن قريب بن عبد الملك بن علي بن أصمع أبو سعيد الباهلي البصري وقيل‏:‏ إن اسم قريب عاصم‏.‏

والأصمعي هذا هو صاحب العربية والغرائب والتصانيف المفيدة والملح واللغة وأيام الناس وأخبارهم وكان مقربًا عند الرشيد وأختص بالبرامكة ونالته السعادة وله مع الرشيد وغيره من الخلفاء ماجريات لطيفة‏.‏

وذكر الذهبي وفاته في سنة ست عشرة ومائتين بخلاف ما أثبتناه هنا وفي وفاته اختلاف كبير وأقوال كثيرة أقلها من هذه السنة وأبعدها إلى سنة ست عشرة ومائتين‏.‏

وفيها توفي عفان بن مسلم أبو عثمان الصفار البصري مولى عزوة بن ثابت الأنصاري ولد سنة أربع وثلاثين ومائة وكان قد جمع بين العلم والزهد والسنة‏.‏

وفيها توفيت علية بنت المهدي عمة المأمون ومولدها سنة ستين ومائة وكانت من أجمل النساء وأظرفهن وأكملهن أدبًا وعقلًا وصيانة وكان في جبهتها سعة تشين وجهها فاتخذت العصابة المكفلة بالجوهر لتستر جبينها بها وهي أول من اتخذتها وسميت شد جبين لذلك‏.‏

الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال‏:‏ وفيها توفي أبو عمرو إسحاق الشيباني صاحب العربية والحسن بن محمد بن أعين الحراني وعبد الصمد بن حسان المروزي ومحمد بن صالح بن بيهس أمير عرب الشام وأبو عبيدة اللغوي‏.‏

أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم خمسة أذرع وخمسة أصابع‏.‏

مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعًا وثمانية عشر إصبعًا‏.‏

M0لية عبد الله بن طاهر هو عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مصعب الأمير أبو العباس الخزاعي المصيصي أمير خراسان وأجل أعمال المشرق ثم أمير مصر ولي مصر من قبل المأمون بعد عزل عبيد الله بن السري على الصلاة والخراج معًا ودخل مصر في يوم الثلاثاء لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة ومائتين بعد أن قاتل عبيد الله بن السري أيامًا وأخذه بالأمان حسبما تقدم ذكره في ترجمة عبيد الله بن السري‏.‏

ومولد عبد الله بن طاهر هذا سنة اثنتين وثمانين ومائة وتأدب في صغره وقرأ العلم والفقه وسمع من وكيع وعبد الله المأمون وروى عنه إسحاق بن راهويه وهو أكبر منه ونصر بن زياد وخلق سواهم‏.‏

وكان بارع الأدب حسن الشعر وتقلد الأعمال الجليلة وأول ولايته مصر‏.‏

ولما ولي مصر ودخلها أمر عبيد الله بن السري بالخروج إلى المأمون ببغداد وأقام عبد الله بن طاهر هذا بعسكره إلى أن خرج عبيد الله بن السري من مصر في نصف جمادى الأولى من السنة المذكورة ثم سكن عبد الله بن طاهر العسكر وجعل على شرطته معاذ بن عزيز ثم عزله بعبدويه بن جبلة ثم تهيأ للخروج إلى الإسكندرية فخرج إليها من مصر في مستهل صفر سنة اثنتي عشرة ومائتين واستخلف على صلاة مصر عيسى بن يزيد الجلودي‏.‏

وكان قد نزل بالإسكندرية طائفة من المغاربة من الأندلس في المراكب وعليهم رجل كنيته أبوحفص فتوجه إليهم عبد الله بن طاهر وقاتلهم حتى أجلاهم عن الإسكندرية‏.‏

وقيل‏:‏ بل نزحوا عنها قبل وصول عبد الله بن طاهر خوفًا منه وتوجهوا إلى جزيرة أقريطش فسكنوها وبها بقايا من أولاده إلى الآن وبعد خروجهم من الإسكندرية عاد عبد الله بن طاهر إلى ديار مصر في جمادى الآخرة وسكن بالعسكر إلى أن ورد عليه كتاب المأمون يأمره بالزيادة في الجامع العتيق فزيد فيه مثله وبعث يعلم المأمون بذلك وكتب له أبياتًا من نظمه وهي‏:‏ ‏"‏ الهزج ‏"‏ أخي أنت ومولاي ومن أشكر نعماه فما أحببت من شيء فإني الدهر أهواه وما تكره من شيء فإني لست أهواه لك الله على ذاك لك الله لك الله وكان عبد الله بن طاهر جوادًا ممدحًا‏.‏

حكى أبو السمراء قال‏:‏ خرجنا مع عبد الله بن طاهر من العراق متوجهين ‏"‏ إلى مصر ‏"‏ حتى إذا كنا بين الرملة ودمشق وإذا بأعرابي قد اعترضنا على بعير له أورق وكان شيخًا فسلم علينا فرددنا عليه السلام وكنت أنا وإسحاق بن إبراهيم الرافقي وإسحاق بن أبي ربعي ونحن نساير عبد الله بن طاهر وكانت كسوتنا أحسن من كسوته ودوابنا أفره من دابته فجعل الأعرابي ينظر في وجوهنا فقلنا‏:‏ ياشيخ قد ألححت في النظر إلينا عرفت شيئًا أم أنكرته فقال‏:‏ لا والله ماعرفتكم قبل يومي هذا ولا أنكرتكم لسوء أراه بكم ولكني رجل حسن الفراسة في الناس جيد المعرفة بهم فأشرت إلى إسحاق بن أبي ربعي وقلت‏:‏ ما تقول في هذا فقال‏:‏ ‏"‏ الطويل ‏"‏ أرى كاتبًا جاه الكتابة بين عليه وتأديب العراق منير له حركات قد تشاهد أنه عليم بتقسيط الخراج بصير ثم نظر إلى إسحاق بن إبراهيم الرافقي وقال‏:‏ ‏"‏ الطويل ‏"‏ ومظهر نسك ما عليه ضميره يحب الهدايا بالرجال مكور أخال به جبنًا وبخلًا وشيمة تخبر عنه أنه لوزير ثم نظر إلي وقال‏:‏ ‏"‏ الطويل ‏"‏ وهذا نديم للأمير ومؤنس يكون له بالقرب منه سرور وأحسبه للشعر والعلم راويًا فبعض نديم مرة وسمير ثم نظر إلى الأمير وقال‏:‏ ‏"‏ الطويل ‏"‏ وهذا الأمير المرتجى سيب كفه فما إن له فيمن رأيت نظير عليه رداة من جمال وهيبة ووجه بإدراك النجاح بشير ألا إنما عبد الإله بن طاهر لنا والد بر بنا وأمير قال‏:‏ فوقع ذلك من عبد الله بن طاهر أحسن موقع وأعجبه مقالة الشيخ وأمر له بخمسمائة دينار وجعله في صحابته‏.‏

ذكر واقعة أخرى لعبد الله بن طاهر هذا‏.‏

قال الحسن بن يحيى الفهري‏:‏ بينما نحن مع عبد الله بن طاهر بين سلمية وحمص ونحن نريد دمشق إذ عارضنا البطين الشاعر ‏"‏ الحمصي ‏"‏ فلما رأى عبد الله بن طاهر قال‏:‏ ‏"‏ الخفيف ‏"‏ مرحبًا مرحبًا وأهلًا وسهلًا بابن ذي الجود طاهر بن الحسين مرحبًا مرحبًا وأهلًا وسهلًا بابن ذي العزتين في الدعوتين مرحبًا مرحبًا بمن كفه البح - ر إذا فاض مزبد الرجوتين ما يبالي المأمون أيده الله إذا كنتما له باقيين أنت غرب وذاك شرق مقيمًا أي فتق أتى من الجانبين وحقيق إذ كنتما في قديم لزريق ومصعب وحسين أن تنالا ما نلتماه من المج - - د وأن تعلوا على الثقلين فأمر له عن كل بيت بألف دينار وسار معه إلى مصر والإسكندرية وبينما هو راكب على وقيل‏:‏ إن عبد الله هذا لما استولى على مصر وهب له المأمون خراجها فلم يدخلها حتى صعد المنبر فما نزل حتى فرق جميع ذلك وكان ثلاثة آلاف ألف دينار‏.‏

وقال سهل بن ميسرة‏:‏ لما رجع عبد الله بن طاهر من الشام إلى بغداد صعد فوق سطح فنظر إلى دخان يرتفع من جواره فقال‏:‏ ما هذا الدخان فقيل له‏:‏ لعل قومًا يخبزون فقال‏:‏ أو يحتاج جيراننا إلى ذلك‏!‏ ثم دعا حاجبه وقال‏:‏ امض ومعك كاتب وأحص جيراننا من لا يقطعهم عنا شارع فمضى وأحصاهم فبلغ عددهم ألف نفس فأمر لكل بيت بالخبز واللحم وما يحتاجون إليه وبكسوة الشتاء والصيف والدراهم فما زالوا كذلك حتى خرج من بغداد فانقطع ذلك لكنه صار يبعث إليهم من خراسان بالكسوة مدة حياته‏.‏

وقيل‏:‏ إن المأمون سأل عبد الله بن طاهر هذا‏:‏ أيما أحسن منزلي أم منزلك قال‏:‏ يا أمير المؤمنين منزلي قال‏:‏ ولم قال‏:‏ لأني فيه مالك وأنا في منزلك مملوك‏.‏

وكان عبد الله بن طاهر لا يدخل في منزله خصيًا ويقول‏:‏ هم بين النساء رجال وبين الرجال نساء‏.‏

وقال أحمد بن يزيد السلمي‏:‏ كنت مع طاهر بن الحسين بالرقة فرفعت إليه قصص فوقع عليها بصلات فبلغت ألفي ألف درهم وسبعمائة ألف درهم ثم كنت مع ولده عبد الله بن طاهر بالرقة فرفعت إليه القصص فوقع عليها فزاد على أبيه بألفي ألف درهم‏.‏

وقال محمد بن يزيد الأموي الحصني - وكان محمد هذا من ولد مسلمة بن عبد الملك بن مروان وكان قد اعتزل الناس في حصن له - قال‏:‏ لما بلغني خروج عبد الله بن طاهر من بغداد يريد قتال مصر أيقنت بالهلاك لما كان بلغه من ردي عليه يعني قصيدته التي يقول في أولها‏:‏ ‏"‏ المديد ‏"‏ مدمن الإغضاء موصول ومديم العتب مملول من أبيات كثيرة‏.‏

قال‏:‏ ولما كان بلغني هذه القصيدة أتقنت المنافية وقلت‏:‏ يفتخر علينا رجل من العجم قتل ملكًا من ملوك العرب بسيف أخيه‏!‏ - يعني بذلك أباه طاهرًا لما قتل الأمين بسيف المأمون - فرددت عليه قصيدته بقصيدتي التي أولها‏:‏ ‏"‏ المديد ‏"‏ لا يرعك القال والقيل كل ما بلغت تهويل ولم أعلم أن الأقدار تظفره بي فلما قرب مجيء عبد الله بن طاهر استوحشت المقام خوفًا على نفسي ورأيت تسليم نفسي عارًا علي فأقمت مستسلمًا للأقدار وأقمت جارية سوداء في أعلى الحصن فلم يرعني إلا وهي تشير بيدها وإذا بباب الحصن يدق فخرجت وإذا بعبد الله بن طاهر واقف وحده قد انفرد عن أصحابه فسلمت عليه سلام خائف فرد علي ردًا جميلًا فأومأت أن أقبل ركابه فمنعني بألطف منع ثم ثنى رجله وجلس على دكة باب الحصن ثم قال‏:‏ سكن روعك فقد أسأت بنا الظن وما علمنا أن زيارتنا لك تروعك‏.‏

ثم كلمني يا بن بنت النار موقدها فقلت‏:‏ لا تنغص إحسانك فقال‏:‏ ما قصدي إلا زيادة الأنس بك فامتنعت‏.‏

فقال‏:‏ والله لا بد فأنشدته القصيدة إلى قولي‏:‏ ما لحاذيه سراويل فقال‏:‏ والله لقد أحصينا ما في خزائن ذي اليمينين - يعني خزائن أبيه طاهر بن الحسين فإنه كان يلقب بذي اليمينين - بعد موته فكان فيها ثلاثة آلاف سراويل من أصناف الثياب ما في واحد منها تكة فما حملك على هذا قلت‏:‏ أنت حملتني بقولك‏:‏ ‏"‏ المديد ‏"‏ وأبي من لا كفاء له من يساوي مجده قولوا فلما فخرت على العرب فخرنا على العجم فقبل العذر وأظهر العفو ثم قال‏:‏ هل لك في الصحبة إلى قتال مصر فاعتذرت بالعجز عن الحركة فأمر بإحضار خمسة مراكب من مراكبه بسروجها ولجمها محلاة بالذهب وثلاثة دواب من دواب الشاكرية وخمسة أبغال من بغال النقل وثلاثة تخوت فيها الثياب الفاخرة وخمس بدر من الدراهم ووضع الجميع على باب الحصن واعتذر بالسفر فمددت يدي لأقبل يده فامتنع‏.‏

وسار لوقته‏.‏

وقال أبو الفضل الربعي‏:‏ لما توجه عبد الله بن طاهر إلى خراسان قصده دعبل الشاعر وكان ينادمه في الشهر خمسة عشر يومًا فكان يصله في الشهر بمائة ألف درهم وخمسين ألف درهم فلما كثرت صلاته توارى عنه دعبل حياء منه فطلبه عبد الله بن طاهر فلم يقدر عليه فكتب إليه دعبل يقول‏:‏ ‏"‏ الطويل ‏"‏ هجرتك لم أهجرك كفرًا لنعمة وهل يرتجى نيل الزيادة بالكفر ولكنني لما أتيتك زائرًا فأفرطت في بري عجزت عن الشكر فملآن لا أتيك إلا معذرًا أزورك في شهرين يومًا وفي شهر فإن زدت في بري تزايدت جفوة ولم تلقني حتى القيامة في الحشر وبعد هذه الأبيات كتب‏:‏ حدثني المأمون عن الرشيد عن المهدي عن المنصور عن أبيه محمد عن أبيه علي عن أبيه عبد الله بن العباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ من لا يشكر الله لا يشكر الناس ومن لا يشكر القليل لا يشكر الكثير ‏"‏ فوصله عبد الله بثلاثمائة ألف درهم‏.‏

وقال معافى بن زكريا‏:‏ أول ما قصد دعبل عبد الله بن طاهر أقام مئة لم يجتمع به وضاق ما بيده فكتب إليه‏:‏ ‏"‏ مخلع البسيط ‏"‏ جئتك مستشفعًا بلا سبب إليك إلا بحرمة الأدب فاقض ذمامي فإنني رجل غير ملح عليك في الطلب أعجلتنا فأتاك عاجل برنا ولو انتظرت كثيره لم يقلل فخذ القليل وكن كأنك لم تسل ونكون نحن كأننا لم نفعل وحكي أنه خرج من بغداد إلى خراسان فسار وهو بين سفاره فلما وصل إلى الري سحرًا سمع صوت الأطيار فقال‏:‏ لله در أبي كبير الهذلي حيث يقول‏:‏ ‏"‏ الطويل ‏"‏ ألا يا حمام الأيك إلفك حاضر وغصنك مياد ففيم تنوح ثم التفت إلى عوف بن محلم الشاعر فقال‏:‏ أجز فقال عوف أبياتًا على وزن هذا البيت وقافيته فلما سمعها عبد الله قال‏:‏ أنخ فوالله لا جاوزت هذا المكان حتى ترجع إليك أفراخك - يعني الجائزة - وأمر له بكل بيت ألف درهم‏.‏

وقال أبو بكر الخطيب‏:‏ دخل عوف بن محلم على عبد الله بن طاهر فسلم فرد عبد الله عليه وفي أذن عوف ثقل فأنشد عوف المذكور‏:‏ ‏"‏ السريع ‏"‏ يا بن الذي دان له المشرقان طرا وقد دان له المغربان إن الثمانين وبلغتها قد أحوجت سمعي إلى ترجمان وقيل‏:‏ إن عبد الله بن طاهر لما وصل إلى مدينة مرو وجلس في قصر الإمارة دخل عليه أبو يزيد الشاعر وأنشده‏:‏ ‏"‏ البسيط ‏"‏ فأنت أولى بتاج الملك تلبسه من هوذة لابن علي وابن ذي يزن فأعطاه عشرين ألفًا‏.‏

وقيل‏:‏ إنه أنشده غيرهما وهو قوله أيضًا‏:‏ ‏"‏ الطويل ‏"‏ يقول رجال إن مرو بعيدة وما بعدت مرو وفيها ابن طاهر وقيل‏:‏ إن عبد الله بن طاهر قدم مرة نيسابور فأمطروا فقال بعض الشعراء‏:‏ ‏"‏ مخلع البسيط ‏"‏ قد قحط الناس في زمانهم حتى إذا جئت جئت بالمطر غيثان في ساعة لنا أتيا فمرحبًا بالأمير والدرر ومن شعر عبد الله بن طاهر المذكور قوله‏:‏ ‏"‏ البسيط ‏"‏ نبهته وظلام الليل منسدل بين الرياض دفينًا في الرياحين فقلت خذ قال كفي لا تطاوعني فقلت قم قال رجلي لا تواتيني إني غفلت عن الساقي فصيرني كما تراني سليب العقل والدين وله نظم كثير غير ذلك‏.‏

ولما دخل إلى مصر وفرق خراجها قبل أن يدخلها حسبما تقدم ذكره أنشده عطاء الطائي - وكان عبد الله بن طاهر واجدًا عليه قبل ذلك - قوله‏:‏ ‏"‏ البسيط ‏"‏ يا أعظم الناس عفوًا عند مقدرة وأظلم الناس عند الجود للمال لو يصبح النيل يجري ماؤه ذهبًا لما أشرت إلى خزن بمثقال فأعجبه وعفا عنه وأقترض عشرة آلاف دينار ودفعها إليه فإنه كان فرق جميع ما معه قبل دخول مصر‏.‏

ولما دخل عبد الله بن طاهر إلى مصر قمع المفسدين بها ومهد البلاد ورتب أحوالها وأقام على إمرة مصر سنة واحدة وخمسة أشهر وعشرة أيام وخرج منها لخمس بقين من شهر رجب سنة اثنتي عشرة ومائتين واستخلف على مصر عيسى بن يزيد الجلودي على صلاتها وركب البحر وتوجه إلى العراق فلما قارب بغداد تلقاه العباس ولد الخليفة المأمون والمعتصم محمد أخو المأمون وأعيان الدولة وقدم عبد الله بغداد وبين يديه المتغلبون على الشأم ومصر مثل ابن أبي الجمل وابن أبي أسقر وغيرهما فأكرمه المأمون ثم ولاه بعد ذلك الأعمال الجليلة مثل خراسان وغيرها‏.‏

ويقال‏:‏ إن عبد اله بن طاهر المذكور هو الذي زرع بمصر البطيخ العبدلي وإليه ينسب بالعبدلي وأظنه ولده عن نوعين فإنه لم يكن ببلد خلاف مصر‏.‏

وعاش بعد عزله عن مصر سنين إلى أن مات بمرو في شهر ربيع الأول سنة ثلاثين ومائتين بعد أن مرض ثلاثة أيام بحلقه يعني بعلة الخوانيق‏.‏

ومات وله ثمان وأربعون سنة‏.‏

وقبل أن يموت تاب وكسر الملاهي وعمر الرباطات بخراسان ووقف لها الوقوف وافتدى الأسرى من الترك بنحو ألفي ألف درهم‏.‏

وكان عادلًا في الرعية محببًا لهم وكان عظيم الهيبة حسن المذهب شجاعًا مقدامًا‏.‏

ولما مات خلف في بيت ماله أربعين ألف ألف درهم سوى ما في بيت مال العامة‏.‏

وتولى مصر من بعده عيسى بن يزيد الجلودي الذي استخلفه عبد الله المذكور أقره المأمون على إمرة مصر بسفارة عبد الله هذا‏.‏

السنة الأولى من ولاية عبد الله بن طاهر على مصر وهي سنة إحدى عشرة ومائتين‏.‏

فيها أمر المأمون بأن ينادى‏:‏ برئت الذمة ممن ذكر معاوية بن أبي سفيان بخير أو فضله على أحد من الصحابة وأن أفضل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏.‏

وكان المأمون يبالغ في التشيع لكنه لم يتكلم في الشيخين بسوء بل كان يترضى عنهما ويعتقد إمامتهما‏.‏

وفيها توفي عبد الرزاق بن همام بن نافع الحافظ أبو بكر الصنعاني الحميري مولده سنة ست وعشرين ومائة وسمع الكثير وروى عنه خلق من كبار المحدثين‏:‏ مثل أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهما‏.‏

ومات باليمن في النصف من شوال من السنة‏.‏

وفيها توفي معلى بن منصور الحافظ أبو يعلى الرازي الحنفي كان ثقة صدوقًا نبيلًا جليلًا صاحب فقه وسنة كثير الحديث صحيح السماع سئل عن القرآن فقال‏:‏ من قال‏:‏ إنه مخلوق فهو كافر‏.‏

وطلب للقضاء فامتنع رحمه الله تعالى‏.‏

وفيها توفي موسى بن سليمان أبو سليمان الجرجاني الحنفي كان إمامًا فقيهًا‏.‏

بصيرًا بالفقه والسنة وكان صدوقًا عرض عليه المأمون القضاء فامتنع وأعتذر بعذر مقبول رحمه الله تعالى‏.‏

الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال‏:‏ وفيها توفي علي بن الحسين بن واقد بمرو وعبد الله بن صالح العجلي المقرىء والأحوص بن جواب أبو الجواب الضبي وطلق بن غنام ثلاثتهم بالكوفة وأبو العتاهية الشاعر ببغداد‏.‏

أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم خمسة أذرع وثمانية أصابع‏.‏

مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعًا وثمانية أصابع‏.‏

السنة الثانية من ولاية عبد الله بن طاهر على مصر وهي سنة اثنتي عشرة ومائتين‏.‏

فيها وجه المأمون محمد بن طاهر على مصر‏.‏

وفيها أظهر المأمون القول بخلق القرآن مضافًا إلى تفضيل علي بن أبي طالب على أبي بكر وعمر رضي الله عنهم أجمعين وأشمأزت النفوس منه وأشخص العلماء وآذاهم وضربهم وحبسهم ونفاهم وقويت شوكة الخوارج‏.‏

وخلع المأمون من الخلافة الأمير أحمد بن محمد العمري المعروف بالأحمر العين ببلاد اليمن‏.‏

ثم سار المأمون إلى دمشق وصام بها رمضان وتوجه فحج بالناس‏.‏

وفيها في شهر ربيع الأول كتب المأمون إلى الآفاق بتفضيل علي بن أبي طالب رضي الله عنه على جميع الصحابة‏.‏

وفيها توفي أحمد بن أبي خالد الوزير أبو العباس وزير المأمون كان أبوه كاتبًا لأبي عبد الله وزير المهدي جد المأمون وكان أحمد هذا فاضلًا مدبرًا جوادًا ذا رأي وفطنة إلا أنه كانت أخلاقه سيئة قال له رجل يومًا‏:‏ والله لقد أعطيت ما لم يعطه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ والله لئن لم تخرج مما قلت لأعاقبنك قال‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ ولو كنت فظًا غليظ القلب لانفضوا من حولك ‏"‏ وأنت فظ غليظ القلب وما ننفض من حولك‏!‏‏.‏

الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال‏:‏ وفيها توفي أبو عاصم النبيل وعبد الرحمن بن حماد الشعيثي وعون بن عمارة العبدي بالبصرة ومحمد بن يوسف الفريابي بقيسارية ومنبه بن عثمان بدمشق وأبو المغيرة عبد القدوس ابن حجاج الخولاني بحمص زكريا بن عدي ببغداد وعبد الملك بن عبد العزيز أبن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون الفقيه بالمدينة وعلي بن قادم بالكوفة وخلاد بن يحيى بمكة والحسين بن حفص الهمداني بأصبهان وعيسى بن دينار الغافقي الفقيه بالأندلس‏.‏

أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم خمسة أذرع وستة أصابع‏.‏

مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعًا وسبعة أصابع‏.‏

ولاية عيسى بن يزيد الأولى على مصر هو عيسى بن يزيد الجلودي ولي إمرة مصر باستخلاف عبد الله بن طاهر عليها فأقره المأمون على إمرة مصر وجمع له الصلاة والخراج فتحول إلى العسكر وسكن به على عادة الأمراء وجعل على شرطته ابنه محمدًا وعلى المظالم إسحاق بن متوكل‏.‏

وكانت ولايته على مصر نيابة عن عبد الله بن طاهر فدام عيسى هذا على إمرة مصر إلى سابع عشر ذي القعدة سنة ثلاث عشرة ومائتين‏.‏

وصرف المأمون عبد الله بن طاهر عن إمرة مصر وولاها لأخيه المعتصم محمد بن هارون الرشيد‏.‏

فلما ولي المعتصم مصر أقر عيسى هذا على الصلاة فقط وجعل على خراج مصر صالح بن شيرزاد‏.‏

فلما ولي صالح المذكور الخراج ظلم الناس وزاد الخراج وعسف فانتقض عليه أهل الحرف واجتمعوا وعسكروا وعزموا على قتاله وكان عليهم عبد السلام وابن الجليس في القيسية واليمانية فقام عيسى بن يزيد بنصرة صالح وبعث ابنه محمدًا في جيش فحاربوه فانهزم وقتل أصحابه‏.‏

وذلك في صفر سنة أربع عشرة ومائتين‏.‏

وبلغ الخبر أبا إسحاق المعتصم فعظم عليه وعزل عيسى هذا عن إمرة مصر وولى عوضه عمير بن الوليد التميمي‏.‏

فكانت ولاية عيسى على مصر في هذه المرة الأولى سنة وسبعة أشهر وأيامًا‏.‏

السنة التي حكم في بعضها عيسى بن يزيد على مصر وهي سنة ثلاث عشرة ومائتين‏.‏

فيها خرج عبد السلام وابن الجليس في القيسية واليمانية بمصر فولى المأمون أخاه أبا إسحاق المعتصم على مصر وعزل عبد الله بن طاهر‏.‏

وقد ذكرنا ذلك كله في ترجمة عيسى بن يزيد‏.‏

وفيها ولى المأمون ولده العباس على الجزيرة وأمر لكل من المعتصم والعباس بخمسمائة ألف دينار وأمر بمثل ذلك لعبد الله بن طاهر المعزول عن إمرة مصر حتى قيل‏:‏ إنه لم يفرق ملك ولا سلطان في يوم واحد مثل ما فرقه المأمون في هذا اليوم‏.‏

قلت‏:‏ لعل الدينار يوم ذاك لم يكن مثل دينارنا اليوم بل يكون مثل دنانير المشارقة التي تسمى بتنكثا والله أعلم‏.‏

وفيها استعمل المأمون على السند الأمير غسان بن عباد وكان غسان هذا من رجال الدهر حزمًا وعزمًا وكان ولي خراسان قبل ذلك وعزل بعبد الله بن طاهر المقدم ذكره‏.‏

وفيها توفي أحمد بن يوسف بن القاسم بن صبح أبو جعفر الكاتب الكوفي مولى بني العجل كاتب المأمون على ديوان الرسائل كان من أفضل الكتاب في عصره‏.‏

وأذكاهم وأجمعهم للمحاسن وكان فصيح اللسان مليح الخط يقول الشعر الجيد قال له رجل يومًا‏:‏ ما أدري مم أعجب مما وليه الله من حسن خلقك أو مما وليته من تحسين خلقك‏!‏ وفيها توفي أسود بن سالم أبو محمد البغدادي الزاهد الورع الصالح المشهور كان بينه وبين معروف الكرخي مودة ومحبة وكان من كبار القوم وممن له كرامات وأحوال‏.‏

وفيها توفي بشر بن أبي الأزهر يزيد الإمام أبو سهل القاضي الحنفي كان من أعيان فقهاء أهل الكوفة وزهادها سأله رجل عن مسألة فأخطأ فيها فعزم أن يقصد عبد الله بن طاهر الأمير لينادى عليه في البلدان‏:‏ بشر أخطأ في مسألة في النكاح حتى رده رجل وقال‏:‏ أنا أعرف الرجل قلت‏:‏ لله در هذا العالم الذي يعمل بعلمه رحمه الله تعالى‏.‏

وفيها توفي ثمامة بن أشرس أبو معن النميري البصري الماجن كان له نوادر واتصل بهارون الرشيد وولده المأمون‏.‏

قيل‏:‏ إنه خرج بعد المغرب من منزله سكران فصادفه المأمون في نفر فلما رآه ثمامة عمل عن طريقه وقد أبصره المأمون فساق إليه المأمون وحاذاه فقال له‏:‏ ثمامة قال‏:‏ إي والله قال‏:‏ سكران أنت قال‏:‏ لا والله قال‏:‏ أفتعرفني قال‏:‏ إي والله قال‏:‏ فمن أنا قال‏:‏ لا أدري والله فضحك المأمون حتى كاد يسقط عن دابته‏.‏

ولثمامة هذا حكايات كثيرة من هذا الجنس‏.‏

وفيها توفي أبو عاصم النبيل في قول صاحب المرآة قال‏:‏ واسمه الضحاك الشيباني البصري الحافظ المحدث كان فقيهًا عالمًا حافظًا سمع الكثير وحدث وسمع منه خلق ومات في ذي الحجة‏.‏

الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال‏:‏ وفيها توفي عبد الله بن موسى العبسي وخالد بن مخلد القطواني بالكوفة وعمرو بن عاصم الكلابي بالبصرة وأبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد المقرئ بمكة وعمرو بن أبي سلمة والهيثم بن تجميل الحافظ بأنطاكية‏.‏

أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ثلاثة أذرع وعشرون إصبعًا‏.‏

مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعًا وخمسة عشر إصبعًا ونصف‏.‏

ولاية عمير بن الوليد على مصر هو عمير بن الوليد الباذغيسي التميمي أمير مصر ولي مصر باستخلاف أبي إسحاق محمد المعتصم له لأن الخليفة المأمون كان ولى مصر لأخيه المعتصم بعد عزل عبد الله بن طاهر وولى المعتصم عميرًا هذا على الصلاة لسبع عشرة خلت من صفر سنة أربع عشرة ومائتين وسكن العسكر وجعل على شرطته ابنه محمدًا وعندما تم أمره خرج عليه القيسية واليمانية الذين كانوا خرجوا قبل تاريخه وعليهم عبد السلام وأبن الجليس فتهيأ عمير هذا وجمع العساكر والجند وخرج لقتالهم وخرج معه أيضًا فيمن خرج الأمير عيسى بن يزيد الجلودي المعزول به عن إمرة مصر وذلك في شهر ربيع الأول من سنة أربع عشرة ومائتين واستخلف عمير ابنه محمدًا على صلاة مصر وسافر بجيوشه حتى ألتقى مع أهل الحوف القيسية واليمانية فكانت بينهم وقعة هائلة وقتال ومعارك وثبت كل من الفريقين حتى قتل عمير هذا في المعركة لست عشرة خلت من شهر ربيع الأول المذكور‏.‏

وقال صاحب البغية‏:‏ قتل عمير في يوم الثلاثاء لثلاث عشرة خلت من شهر ربيع الأول فوافق في الشهر والسنة وخالف في اليوم‏.‏

قلت‏:‏ وكانت ولاية عمير بن الوليد المذكور على مصر استقلالًا من قبل أبي إسحاق المعتصم شهرين سواء‏.‏

وتولى من بعده مصر عيسى بن يزيد الجلودي ثانيًا‏.‏

ولاية عيسى بن يزيد الجلودي ثانيًا على مصر ولي عيسى بن يزيد هذا مصر ثانيًا من قبل أبي إسحاق محمد المعتصم بعد قتل عمير بن الوليد على الصلاة ولما ولي مصر قصده قيس ويمن على العادة وقد كثر جمعهم من أهل الحوف وقطاع الطريق فوقع لعيسى هذا أيضًا معهم حروب وفتن‏.‏

وجمع عساكره وخرج إليهم حتى التقاهم بمنية مطر ‏"‏ عني المطرية بقرب مدينة عين شمس التي فيها العمود الذي تسميه العامة بمسلة فرعون ‏"‏ وقاتلهم فكانت بينهم حروب هائلة انكسر فيها الأمير عيسى بمن معه وقتل من عسكره خلائق وانحاز إلى مصر وذلك في شهر رجب من سنة أربع عشرة ومائتين المذكورة‏.‏

وبلغ المأمون ذلك فعظم عليه وطلب أخاه أبا إسحاق محمدًا المعتصم وندبه للخروج إلى مصر وقال له‏:‏ امض إلى عملك وأصلح شأنه وكان المعتصم شجاعًا مقدامًا فخرج المعتصم من بغداد في أربعة آلاف من أتراكه وسافر حتى قدم مصر في أيام يسيرة وعيسى كالمحصور مع أهل الحوف وقبل دخوله إلى مصر بدأ بقتال أهل الحوف من القيسية واليمانية وقاتلهم وهزمهم وقتل أكابرهم ووضع السيف في القيسية واليمانية حتى أفناهم وذلك في شعبان من السنة ومهد البلاد وأباد أهل الفساد ثم دخل الفسطاط ‏"‏ أعني مصر ‏"‏ وفي خدمته عيسى الجلودي وجميع أعيان المصريين لثمان بقين من شعبان وسكن بالعسكر حتى أصلح أحوال مصر ثم خرج منها إلى الشأم في غرة المحرم سنة خمس عشرة ومائتين في أتراكه ومعه جمع كثير من الأسرى في ضر وجهد شديد مشاة حفاة أمام الخيالة‏.‏

قلت‏:‏ وشجاعة المعتصم معروفة مشهورة تذكر في خلافته ووفاته وهو الآن ولي عهد أخيه عبد الله المأمون وقبل أن يخرج من مصر مهد أمورها وولى عليها عبدويه بن جبلة وعزل عيسى بن يزيد الجلودي صاحب الترجمة‏.‏

فكانت ولاية عيسى هذه الثانية على مصر نحوًا من ثمانية أشهر تنقص أيامًا‏.‏